محمود الرفاعي يكتب: من يحاول إسكات ما تبقّى من نبض شيرين عبد الوهاب؟

في زمنٍ لم يعد فيه الفَنّ موطناً للرحمة، ولا للمحبة، ثارت العاصفة، واشتعلت النار على مدى ثلاثة أيام، ليس لأن صوتًا قد خذل جمهوره، بل لأن شيرين عبدالوهاب، تلك التي كثيرًا ما غنّت من عمق جراحها، اختارت أن تبدأ حفلها في ختام مهرجان “موازين – إيقاعات العالم” بطريقة الـ”بلاي باك”.
مشهدٌ عابر تحوّل إلى محاكمة، وهفوة فنية صُوِّرت كجريمةٍ مكتملة الأركان.
كأن شيرين وقفت على خشبة المسرح بلا روح، بلا ماضٍ، بلا عذر. كأنها ارتكبت خيانة فنية عظمى لا تغتفر. فمقاطع الفيديو تتناثر كالشظايا، وجمهور ينسحب غاضبًا، ومطالبات تشتعل بإعادة الأموال، وكأن الحفل كان استهانةً لا إطلالةً، وسقوطًا لا حضورًا.
كأنها ارتكبت خيانة فنية عظمى لا تغتفر.
ولكن، من يعرف شيرين… من تابع حفلاتها وتقلّباتها، يعلم يقينًا أن ما قدّمته في تلك الليلة لم يكن بدعة ولا تمردًا على الفن، بل تقليد درجت عليه منذ سنوات. لطالما استهلّت حفلاتها على أنغام “نساي” بـ”بلاي باك”، ولطالما مرّت بأغانٍ لا تُقدَّم إلا بمرافقة تسجيل استوديو، تحفّها آلات لا يقدر المسرح الحي على إخراجها بتلك الدقة التي تليق بها. أمرٌ مألوف، بل ومقبول، بل ومكرر في معظم العروض الغنائية المعاصرة.
فلماذا إذًا هذا الغضب؟
ولماذا الآن؟
في دبي، لم يضجّ أحد حين قدّمت شيرين ست أغانٍ بتقنية “بلاي باك”. لم يغادر الجمهور. لم يحتجّ أحد. بل خرجوا وهم يردّدون الأغنيات نفسها بمحبةٍ وانبهار. أما في المغرب، فقد تحوّل الأمر إلى قضية رأي عام، وكأن المأساة لم تكن فنية، بل وجودية.
لا أنكر على الجمهور المغربي وجعه من تأخّرها عن موعد الحفل، ولا خيبته من غياب البروفات، وربما من الأداء الذي لم يرتقِ إلى ما عرفوه عنها. لهم الحق أن يغضبوا، لكن أن يُختزل كل شيء في اتهام، وأن تتحوّل الزلّة إلى سكين، فهذا ما يصعب تقبّله.
شيرين قدّمت خمسًا وعشرين أغنية في تلك الليلة، بصوتٍ أتعبه الوجع، وقلبٍ ربّما أثقله المرض، وحالةٍ صحية قيل إنها لم تكن في أفضل حالاتها. ورغم ذلك، لم تنسحب، ولم تتهرّب، ولم تبكِ أمام الجمهور كما فعلت ذات مرة… بل غنّت. فهل جزاؤها أن نغتال ما تبقّى من ضوئها؟
الغريب أن شيرين مرّت بمواقف أصعب، وسقطت في دوامات أقسى، لكنها لم تتعرّض لمثل هذا الهجوم. فهل ما يجري الآن هو مجرد غضب عابر؟ أم أنه امتدادٌ لحملةٍ خفيّة، تُراد منها الإطاحة بثقتها، وزرع الشكّ في قدرتها على النهوض من جديد؟
هناك من لا يُغنّون على الإطلاق، بل يحركون الشفاه فقط. وهناك من لم تعد طبقاتهم العالية تطاوعهم، فيلجأون للتقنيات أو ينسحبون بهدوء. ولم نرَ أحدًا يحاكمهم على الملأ. أما شيرين، فحين تتعثر، تتسابق الأيدي لدفعها إلى القاع.
أنا لا أبرّر كل ما فعلته، ولا أزكّي كل قراراتها. لكنني أؤمن أن هناك شيئًا في هذا الهجوم لا يُشبه النقد، بل يُشبه الإصرار على كسر جناحيها، وعلى إجبارها على الرحيل بصمت.
وهذا ما لا يستحقه صوتٌ حمل أحزاننا وغنّى لنا حين كنا عاجزين عن البكاء.
شيرين ليست مطربة عابرة. هي حنجرة من حرير، وصوتٌ من حنين، وأثرٌ في وجدان الأمة. صوتٌ يوجِع حين يُغنّي، ويُشفي حين يئنّ. وإن كنّا قد سئمنا الدراما المحيطة بها، فذاك لا يمنحنا حق اغتيالها.
شيرين ليست مطربة عابرة. هي حنجرة من حرير، وصوتٌ من حنين، وأثرٌ في وجدان الأمة.
لا تطلبوا منّا أن نُصفّق لها في كل مرة، لكن لا تطلبوا منّا أيضًا أن نُجهز عليها حين تُخطئ.
اتركوها…
فهي لم تعُد بحاجة إلا لفرصةٍ لتتنفّس.
شيرين عبدالوهاب لا تحتضر. لكنها تُصارع وحدها، في صمتٍ موجِع، بينما الكل مشغول بإطفاء ما تبقّى من وهجها.